في ظل التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم في مجالات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، أصبحت النظم التشريعية التقليدية غير كافية لمواكبة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية. ولأن التشريع يمثل الأساس القانوني لأي نشاط اقتصادي أو مجتمعي، بادرت دولة الإمارات العربية المتحدة باتخاذ خطوة ريادية من خلال إطلاق "المنظومة التشريعية الذكية المتكاملة"، وذلك بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 14 أبريل 2025، برئاسة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
ووفقًا للبيان الرسمي الصادر عن مجلس الوزراء، فإن هذه المنظومة تُعد الأولى من نوعها في المنطقة، وتهدف إلى إعادة هندسة عملية إعداد التشريعات عبر استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، مما يُحقق أعلى درجات الكفاءة والمرونة والشفافية، ويُسهم في تعزيز البيئة القانونية الجاذبة للاستثمار واستباق التحولات العالمية.
أولًا: الإطار القانوني والدستوري للمنظومة الجديدة
ترتكز المنظومة التشريعية الذكية على قاعدة دستورية راسخة، حيث تُناط بمجلس الوزراء بموجب المادة (60) من الدستور الإماراتي مهمة اقتراح مشروعات القوانين الاتحادية، بالتنسيق مع المجلس الوطني الاتحادي. وقد أتاح التطور القانوني في الدولة، خاصة منذ اعتماد مشروع "التحديث الشامل للتشريعات الاتحادية" (2021 – 2024)، أرضية صلبة لإطلاق مثل هذه المبادرات المبتكرة.
وقد صدر اعتماد هذه المنظومة في إطار تحديثات مستمرة تقودها اللجنة العليا لتطوير المنظومة التشريعية، بما يحقق التكامل بين التحول الرقمي ورسم السياسات القانونية وفقًا لرؤية الإمارات 2071.
ثانيًا: ملامح ومكونات المنظومة التشريعية الذكية
جاءت هذه المنظومة كثمرة لتطورات تقنية وقانونية، وتتميز بما يلي:
• تحليل البيانات التشريعية باستخدام الذكاء الاصطناعي: مراجعة شاملة للنصوص القانونية القائمة، واكتشاف التكرار والتضارب والثغرات.
• استباق التغيرات العالمية: عبر ربط المنظومة بقواعد بيانات دولية لمتابعة الاتجاهات التشريعية الدولية في الاقتصاد، المناخ، التكنولوجيا.
• اقتراحات آلية لتعديل أو إصدار تشريعات جديدة: بما يواكب التغيرات، وتقديم صيغ مبدئية يمكن اعتمادها بعد مراجعة بشرية.
• قياس الأثر التشريعي بشكل كمّي ونوعي: أي قبل صدور التشريع، يتم تقييم تأثيره المتوقع على قطاعات الاقتصاد والمجتمع.
ثالثًا: أثر المنظومة على بيئة الاستثمار والامتثال
يُعد الجانب الاستثماري من أبرز الأهداف غير المعلنة لهذه المنظومة، إذ تسهم في:
• تعزيز الشفافية واليقين القانوني، ما يُشجع المستثمرين على اتخاذ قرارات طويلة الأمد.
• اختصار زمن التشريع، ما يقلل من التعطيل الناتج عن تأخر صدور الأنظمة.
• إزالة التناقضات التنظيمية، مما يُسهم في تسهيل إجراءات الامتثال على الشركات العاملة في الدولة.
• مواءمة التشريعات الاقتصادية مع قوانين التقنية الحديثة، مثل قانون التجارة الإلكترونية (المرسوم بقانون اتحادي رقم 14 لسنة 2023).
كما يتوقع أن تُستخدم هذه المنظومة لمواكبة قوانين الملكية الفكرية، التكنولوجيا المالية، والتجارة العابرة للحدود، وهي المجالات التي باتت تؤثر مباشرة على جذب الموالين ورؤوس الأموال.
رابعًا: التحديات القانونية والرقابية المصاحبة
رغم ما تحمله هذه المبادرة من تقدم تشريعي، فإن هناك تحديات مستقبلية يجب أخذها بعين الاعتبار:
• مسؤولية القرارات التشريعية الناتجة عن أدوات الذكاء الاصطناعي: هل تظل المسؤولية كاملة على الجهات التشريعية، أم تشترك المنظومة الذكية في ذلك؟
• حماية البيانات القانونية والتحليلية الحساسة: خاصة إذا ما تم ربط المنظومة بقواعد بيانات دولية.
• الرقابة الدستورية على التشريعات المقترحة آليًا: لا بد من المحافظة على الدور البشري في مراجعة ومواءمة النصوص مع المبادئ الدستورية.
• تشريعات مواكبة للذكاء الاصطناعي ذاته: مثل القوانين المقترحة في الدولة بشأن "التنظيم الأخلاقي لتقنيات المستقبل".
خامسًا: الانعكاسات المؤسسية والمهنية
تشكل هذه المنظومة تحولًا في طبيعة عمل المستشارين القانونيين، ودوائر التشريع في الوزارات والهيئات، حيث يتوقع أن:
• يتم إعادة تدريب الكوادر القانونية على استخدام أدوات تحليل البيانات القانونية.
• يُعتمد على فرق مشتركة تجمع بين خبراء القانون وخبراء البيانات.
• يتم بناء منصات تشريعية تفاعلية تمكّن من إشراك الجمهور في مراجعة الأثر التشريعي المقترح.
في الختام، إن إطلاق المنظومة التشريعية الذكية بدولة الإمارات لا يمثل مجرد إدماج للتكنولوجيا في القانون، بل هو إعادة تعريف لدورة التشريع نفسها، حيث يتحول القانون من أداة استجابة إلى أداة استشراف.
وفي ظل ما أظهرته التجربة الإماراتية من قدرة على الدمج بين الحداثة القانونية والانضباط المؤسسي، فإن هذه المبادرة من شأنها أن تعزز من مكانة الدولة كنموذج قانوني يحتذى، وتفتح آفاقًا جديدة لبناء بيئة قانونية واقتصادية مستدامة وجاذبة للاستثمار.
للمزيد من المعلومات والاستشارات القانونية يمكنكم التواصل مع مكتب الصَفَر ومُشارِكوه. نحن هنا لمساعدتكم وتقديم المشورة القانونية التي تحتاجون إليها. تواصلوا معنا عبر 0527583267 - reception@alsafarpartners.com https://www.alsafarpartners.com
Written By: Ms. Rana Al Shoufi - Legal Consultant & Head of legal Coordination Department at Al Safar and Partners Law Firm